كانت مطالب العدالة الاجتماعية وتغيير دفة السياسة الاقتصادية لصالح الأغلبية التي تعاني من اللا مساواة والتهميش في القلب من الانتفاضات الجماهيرية التي شهدها العالم العربي بدءا من أواخر 2010. لكن حتى في قمة زخم هذه التحركات الجماهيرية في 2010، لم تحد السياسات الحكومية عن المسار النيوليبرالي جوهريا، وبالرغم من وضع مطالب مكافحة الفساد وأولوية التشغيل ورفع الأجور وبناء شبكة أمان اجتماعي وزيادة الإنفاق على الخدمات العامة خاصة التعليم والصحة وإعادة هيكلة النظام الضريبي، إلا أن التغييرات التي تمت في هذا الإطار ظلت محدودة وشكلية، وظلت أولوية عجز الموازنة والضبط المالي هي جوهر السياسة الاقتصادية متزامنة مع توسع مضطرد في الاقتراض الخارجي دون شفافية ولا رقابة شعبية ولا برلمانية.
ومع تراجع الضغط من أسفل بمرور الوقت، عاد المشروع النيوليبرالي ليفرض سطوته مرة أخرى على السياسة الاقتصادية فاتحا المجال لكي يقتحم قطاعات ومجالات كانت مغلقة أمامه حتى فيما قبل 2011، بينما عاد خطاب أولوية الاستثمار الأجنبي والمحلي ليهيمن على الصورة في استعادة لفلسفة تساقط ثمار النمو مرة أخرى.
ستتناول الورقة عددا من القضايا تبدأ بكيف تطور المشروع النيوليبرالي قبل وبعد الثورات؟ وكيف كانت التغيرات في السياسة الاقتصادية هامشية، ثم كيف عكست هيمنة للمشروع نفسها في السياسة الاقتصادية الاجتماعية مع تراجع زخم الشارع؟. وستحاول الورقة، وضع أزمة المشروع النيوليبرالي في المنطقة في سياق أزمته العالمية مقارنة تحولات الأول بتحولات المشروع العالمي الذي يواصل مسيرته هو الآخر برغم كل شيء. (المثال اليوناني).
وتتعرض الورقة لمقولات “لا يوجد بديل آخر” التي تتمترس عادة تحت التصورات الفنية التكنوقراطية للاقتصاد محاولة طرح البدائل الممكنة ليس فقط في صورة مشروع مغاير جذريا للمشروع النيوليبرالي وإنما حتى حيز السياسات الممكن التنفيذ في ظل الشروط القائمة للسياسات الاقتصادية.
ثم تتناول الورقة سؤال لماذا لم تتبن السياسة الاقتصادية إصلاحات صغيرة لاستيعاب الشارع والتحالفات السياسية-الاجتماعية-الاقتصادية التي يستند لها المشروع النيوليبرالي في محاولة لتفسير انعدام مرونته من ناحية، واستمرار هيمنته من ناحية أخرى محاولة رسم صورة عامة للشروط السياسية للتحرك في اتجاه العدالة الاجتماعية في المستقبل.
مشروع النيوليبرالية العربية: جدل الخارجي والداخلي
في سبتمبر 2007، أعلنت مؤسسة التمويل الدولية مصر الدولة المصلحة الأولى عالميا في السياسة الاقتصادية. وقالت المؤسسة، التي هي جزء من مجموعة البنك الدولي، في حيثيات الاختيار أن مصر “حسنت بشكل عظيم وضعها في التصنيف العالمي لسهولة أداء الأعمال بإصلاحات في 5 من ال 10 مجالات التي يدرسها التقرير”.[1] وتشمل هذه المجالات تقوية حقوق الملكية وحماية المستثمرين وتخفيف الضرائب عليهم وتسهيل وصولهم للاعتمادات المصرفية وفتح التجارة وتقليل نفقاتها الجمركية والضريبية، وهي كلها إجراءات تنتمي لإجراءات إجماع واشنطن المعروفة كعماد المشروع النيوليبرالي.
في التقرير نفسه هناك إشارة خاصة لدول عربية أخرى من ضمنها المملكة العربية السعودية، التي احتلت سنتها المرتبة ال 23 عالميا من حيث سهولة أداء الأعمال، ودخلت قائمة الـ10 الدول الأكثر قياما بتعديلات وفقا لمعايير التقرير.
أيضا ذكر التقرير تونس ضمن 11 دولة قامت بـ3 إجراءات أو أكثر مما تصنفها المؤسسة الدولية كإصلاحات. بعد ذلك بحوالي سنة، وفي نوفمبر 2008، قلد ديكتاتور تونس زين العابدين بن علي دومينيك ستراوس كان، المدير العام لصندوق النقد الدولي الصنف الاول من وسام الجمهورية وذلك “تقديرا لخصاله الفكرية واسهاماته في دعم التنمية الاقتصادية على الصعيد العالمي”[2]، ومن ناحيته رد ستراوس كان الجميل بقوله أن “السياسة الاقتصادية المنتهجة هنا هي سياسة سليمة وتعد أحسن مثال يمكن الاقتداء به من قبل عديد البلدان الصاعدة مثل تونس”.[3]
ويمكن رصد وملاحظة مركزية الوصايا العشر لإجماع واشنطن، خلاصة الإجراءات الاقتصادية للمشروع النيوليبرالي في معظم البلدان العربية أن لم يكن كلها (بالطبع بدرجات تتفاوت بحسب توازنات الحكم والتطور الرأسمالي والوضع بالنسبة للسوق العالمي). تتضمن هذه الوصايا العشر بصياغة جون ويليامسون:[4] 1) تقليص عجز الموازنة ويفضل أن يتم ذلك لما هو أقل من 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، 2) إعطاء الأولوية للتعليم الأساسي والبنية الأساسية بما عنى الانسحاب من الإنفاق على الخدمات العامة في الحقيقة خاصة في ظل الوصية الأولى 3) توسيع قاعدة دافعي الضرائب وتقليل معدلات الضريبة، 4) توحيد أسعار الفائدة، 5) توحيد أسعار الصرف عند معدلات منخفضة تساعد التصدير، 6) إزالة القيود التجارية وتقليل التعريفات الجمركية 7) تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، 8) خصخصة المؤسسات العامة، 9) إلغاء القيود على تأسيس الشركات، وأخيرا 10) تأمين حقوق الملكية الخاصة.
وتتعدد التكييفات لطبيعة المشروع النيوليبرالي وأسباب صعوده عالميا وفي العالم العربي. ما من شك أنه كان هناك دور محوري لتبشير وضغوط رأس المال العالمي في إطلاق المشروع النيوليبرالي العربي من خلال مؤسسات العولمة الرأسمالية المنتصرة المختلفة، وعلى رأسها المؤسسات الثلاث الأهم والأعم نفوذا: البنك والصندوق الدوليان ومنظمة التجارة العالمية. واستمر هذا الدور في تطوير ودفع المشروع والإشادة به وبنجاحه، كما كان الحال في مصر وتونس. غير أن المشروع النيوليبرالي العربي كان له ديناميكياته وقواه المحركة المحلية. أيضا كان له دوافعه في تطور مشروعات الحكم وتحالفاته وأزمات هذه المشروعات في العقود الأخيرة.
لقد كان الثلاثي غير المقدس طرفا أساسيا في صياغة السياسات الاقتصادية في مصر وتونس والأردن وغيرها من الدول العربية منذ زمن طويل يعود في الماضي إلى السبعينيات، مروراَ باتفاقات ما بعد حرب الخليج الثاني في التسعينيات، ثم التسارع الهائل في إيقاع التحول النيوليبرالي في العقد ونصف العقد الماضيين.
كان تحول النيوليبرالية العربية إلى مشروع للحكم العربي مقرونا باتفاقات التجارة الثنائية وبالانضمام لمنظمة التجارة العالمية وبضغوط ووعود صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وكان جزءا لا يتجزأ من شروط من المعونة الأمريكية لمصر على مدار عقود، سواء كان ذلك في الشق الاقتصادي أم الشق العسكري. وقد خدم المشروع بالتأكيد مصالح الهيمنة الاقتصادية والسياسية للشركات العالمية الكبرى وللقوى السياسية والعسكرية التي تساندها وتقف وراءها. ويشير آدم هنية في كتابه “سلالات التمرد قضايا الرأسمالية المعاصرة فى الشرق الأوسط"، [5] إلى ست سمات مركزية تم بها إعادة صياغة مشروع الهيمنة الخارجي هذا. من بينها سياسات الشراكة الأوروبية ودمج القطاعات الإنتاجية هنا وهناك والتي عنت “إعادة توجيه اقتصادات شمال أفريقيا ناحية احتياجات رأس المال الأوروبي جاعلة من المتوسط جزءا تابعا من جوارها الواسع عبر التجارة وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر" [6]. إلى جانب ذلك قامت الولايات المتحدة من ناحيتها بالارتكاز على تحالفاتها في الخليج وفي إسرائيل ثم منها عبر اتفاقات الكويز مع مصر والأردن وإسرائيل بتعميق التوجه النيوليبرالي.
إلا أن المشروع النيوليبرالي عالميا كان مشروع حكم. صحيح أنه كان رد فعل على الأزمة الاقتصادية التي مر بها الرواج الكينزي الطويل في بداية السبعينيات، إلا أنه في الوقت نفسه كان تعبيرا عن مشروع لإعادة هيمنة الطبقات المالكة لرأس المال. من ناحية هناك نظريات كنظرية البنية الاجتماعية للتراكم“ (social structure of accumulation” SSA") في تفسير صعود المشروع النيوليبرالي. تركز على التقلب بين فترات النمو والكساد في الاقتصادات الرأسمالية. في هذا الإطار “فإن النخب السياسية والاقتصادية تبتكر مجموعة من المؤسسات المفيدة للتراكم الرأسمالي لتطلق فترة من النمو المستدام حتى يأتي الوقت الذي تستنفذ فيه هذه المؤسسات نفسها وينتج عن الأزمة تحول في المنظور العام من الرأسمالية المنضبطة إلى الحرة وبالعكس. “وفقا لهذا فإن المشروع النيوليبرالي هو بينة اجتماعية للتراكم أي بنية مؤسسية متماسكة تسهل التراكم الرأسمالي السريع” بحسب ريتشارد سيمور. [7]
بينما تشير بعض التفسيرات الأخرى لأن صعود النيوليبرالية هو تعبير عن وتجسيد للهيمنة المتزايدة لرأس المال المالي أيديولوجيا وعمليا وسياسيا. لكن في كل الأحوال فإن كل هذه التفسيرات تشير إلى طابع سياسي مركزي للمشروع في توازن الحكم. “النيوليبرالية هي أكثر بكثير من مجرد قائمة طلبات "السوق الحرة" من الإجراءات الاقتصادية، فهي تمثل إعادة هيكلة جذرية في العلاقات الطبقية"، كما يقول آدم هنية مشيرا إلى العامل الخارجي في صعود المشروع عربيا، والذي "يولد مجموعة من القوى الاجتماعية الداخلية التي لها مصلحة موضوعية في مساندة الوضع القائم الجديد" [8].
والحقيقة أنه إلى جانب هذه العناصر المتعلقة بالتدخل الخارجي، أو الخارجية التي خلقت مجموعات مساندة محلية ذات مصلحة، كانت هناك دوافع محلية مركزية محض وراء صعود المشروع النيوليبرالي في العالم العربي اختلفت بحسب المسار الاقتصادي لكنها اتسمت في كل الأحوال بإعادة تصميم بنية التراكم الاجتماعية وتعديل صياغة مشروعات الحكم للتعامل مع أزمته المركبة الاقتصادية والسياسية. كما اتسمت في جانب منها أيضا بصعود نفوذ التمويل والقطاع المالي وبالتداخل الإقليمي المتزايد.
ويمكن الإشارة هنا إلى أكثر من مسار عربي للمشروع ودوافعه. ففي الدول المنتجة للنفط في الخليج مثلا كانت أزمة الريع النفطي المتعمقة في العقود الأخيرة، المتزامنة مع تآكل آليات استيعاب الغضب الاجتماعي التي قام عليها مشروع الحكم في الخليج، سياسيا وأيديولوجيا، دافعا أساسيا في التحول نحو قطاعات غير النفط والتوسع الخارجي نحو السوق العالمي وفي الارتباط بالمراكز الرأسمالية المتقدمة في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وشرق آسيا عبر الاستحواذات وغيرها. [9]
على الجانب الآخر، يمكن الإشارة للاقتصاد المصري، حيث تعرضت الدولة الريعية الرعوية لأزمة جديدة طاحنة في السنوات الأخيرة من عصر مبارك. وكانت حرب الخليج 1990 قد أنقذت النظام بدفقة اسقاط الديون مقابل الاشتراك في الحرب (كانت أيضا مرحلة أساسية في دفع التكيف الهيكلي حيث اقترنت المشاركة في الحرب واسقاط الديون بتوقيع اتفاق مع صندوق النقد وبدء واحد من أهم برامج الخصخصة والتقشف خلال التسعينيات). لكن الأزمة استمرت وتفاقمت. وكان أحد الحلول الأساسية التي تم تقديمها هي إشراك حليف جديد في الحكم هو رجال الأعمال. [10]
وعادة ما يتم تقديم مشروع توريث الحكم لجمال مبارك (الذي يعتبره كثيرون مركزيا بين دوافع ثورة يناير) على أنه المحور في الدفع بمشروع النيوليبرالية الذي حدث منذ تعيين حكومة أحمد نظيف في 2004. وفي الحقيقة أن المرحلة السابقة من التحول النيوليبرالي قد أنتجت شريكا جديدا في الحكم (رجال الأعمال الجدد في البورصة وغيرها)، وأن هذا الشريك بحث عن الممثل السياسي الملائم له وليس العكس. ومع ميل بنية الحكم في مصر تجاه البديل الذي يطرحه الشريك الجديد للخروج من الأزمة مال الميزان السياسي لصالحه فدعم قوته وثقله بالمزيد من السياسات التي نقلت جانبا أكبر من الموارد الطبيعية وفي مراكز التراكم إليه. هذا الشريك الجديد الذي اختار جمال مبارك ممثلا له في بنية الحكم، أشرف على تسريع عملية “التراكم بنزع الحيازة” أي الاستيلاء على الأراضي وخصخصة الخدمات، وطبق واحدا من أعمق البرامج انصياعا لإجماع واشنطن بمباركة الثلاثي الدولي.
لم يكن هذا التداخل المستحدث بين عالم البيروقراطية والأمن، الذي هيمن على بنية التراكم والحكم في عصر دولة ما بعد الاستعمار التنموية، وبين الصاعدين الجدد من عالم المال والمضاربة والأعمال العابرة للحدود، قاصرا على مصر. فالتجربة التونسية تشترك مع مصر في هذه السمة، التي أطلق عليها البعض “رأسمالية المحاسيب”، واعتبرها البنك الدولي لاحقا بعد أن سقط نظاما حسني مبارك وزين العابدين بن علي صورة من صور “أسر الدولة” State Capture. غير أن دفقة الإنعاش التي ضختها الإجراءات الجديدة وعكست نفسها في معدلات نمو متسارعة في مصر وتونس، تلك التي نالت استحسان الثلاثي كما تمت الإشارة أعلاه، سرعان ما تلاشت بالذات وأنها هي في ذاتها قد عمقت من التفاوتات الاجتماعية وزادت الضغط على مستويات معيشة الأغلبية الكاسحة من السكان، فتفجرت أزمتا التراكم والحكم مرة أخرى.
أزمة النيوليبرالية والثورات العربية
كانت الأزمة المالية-الاقتصادية التي تفجرت من الولايات المتحدة في 2007-2008، ثم عمت العالم بأسره نقطة فاصلة في أزمة المشروع النيوليبرالي. فبرغم استمراره من أواخر التسعينيات وتوسعه المستمر في العالم كله، لم ينجح المشروع برغم كل ما وفره من نزح للموارد العامة في الوصول بالتراكم الرأسمالي إلى نقطة الصعود والرخاء المعمم الكلاسيكية في دورة رأس المال العالمي. فمنذ نهاية الستينيات، ومعها حقبة النمو المتواصل لثلاثة عقود، لم تشهد الرأسمالية العالمية مثل هذا الصعود. بل تبادلت مراكزه الرخاء والأزمة. فالصعود الياباني الألماني في بداية الثمانينيات أخلى مكانه لصعود ما سمي بنمور جنوب شرق آسيا في التسعينيات ثم انهار هذا الصعود بأزمة امتدت لروسيا في 1998، ثم صعود الدوت كوم في الولايات المتحدة الذي لم يدم طويلا بينما كان هناك الانهيار الأرجنتيني في الطريق في 2000 و2001. ومن حيث كان المنفذ لمعدلات الأرباح المتراجعة وللتراكم الرأسمالي في أسواق المال والمنتجات المالية المبتكرة، جاءت الضربة من النظام المالي.
هذه هي الخلفية التي اندلعت في سياقها الثورات العربية من تونس إلى مصر إلى ليبيا واليمن وسورية، بينما شهدت دول أخرى احتجاجات لم تصل لحد انهيار نظم الحكم القديمة في الأردن والمغرب والبحرين والكويت.
عندما اندلعت الأزمة العالمية، كان رد الفعل الأولي من النخب الحاكمة هو أنها لن تؤثر على المنطقة. بل ذهب بعض وزراء الحكومة المصرية إلى أن الاقتصاد المصري قد يستفيد، كما حدث بالنسبة للبورصة المصرية أثناء الأزمة الاسيوية 1997-1998، بأن تتحول بعض الاستثمارات إليه. وفي البداية حمت بعض الاحتياطيات من العملات النقدية وقلة الارتباط المباشر بعض الاقتصادات العربية من الانهيار بالفعل. لكن بمرور الوقت أظهرت الأزمة العالمية أثرها في تراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر وفي تراجع في التحويلات من الخارج وفي السياحة كما كان الحال بالنسبة لتونس ومصر، بينما اتضح الأثر على الاقتصادات الخليجية الأعمق صلة بالسوق العالمي وبالتراكم في أوروبا والولايات المتحدة.
وكما حدث في السياق العالمي، أعطت طبقات الحكم ظهرها لفكرة ضرورة أولوية السوق وتدخلت بضخ حزم التحفيز لإنقاذ شركاء الحكم والتراكم. وتزامن ذلك مع ارتفاع هائل في أسعار السلع الغذائية عالميا ولد صدمات تضخمية كان من أثرها تصاعد عدم الرضاء. وفي الوقت الذي كان صندوق النقد مازال يشيد فيه بتجارب النمو السريع في تونس ومصر كنماذج ناجحة لليبرالية الجديدة والتحرير الاقتصادي، كانت المقاومة العمالية والاجتماعية تتجمع ببطء ضد التجليات المتسارعة لهذه السياسة.
في مصر، يمكن ملاحظة تطور الخط البياني للاحتجاجات العمالية الصاعد بسرعة الصاروخ ابتداء من عام 2004، حينما وصلت حكومة أحمد نظيف للسلطة، والتي أطلقت إشاراتها الكبرى الأولى إضرابات عمال النسيج بالمحلة والدلتا في 2006 و2007. في هذه السنوات أيضا، لم تخل الأردن وتونس والمغرب من تحركات عمالية ونقابية منظمة، واحتجاجات عفوية، في مواجهة سياسات خفض الأجور الفعلية ورفع الأسعار، بفعل تخفيض العملة المحلية وتقليص دعم الطاقة. وفي الأردن كانت هناك الاحتجاجات الجماهيرية على رفع أسعار الوقود.
وفي تونس شهد عام 2008 نموذجا مصغرا لما حدث في 2010 و2011 بانتفاضة جماهيرية في الحوض المنجمي، ثم كان للإضراب العام الذي دعا له الاتحاد العام التونسي للشغل دور حاسم في المعركة ضد بن علي، كما كان لدخول الطبقة العاملة المصرية ساحة المواجهة ضد مبارك بإضرابات النقل العام والبريد وعمال قناة السويس وغيرهم… فضل لا ينكر في حسم المواجهة ضد مبارك. وهكذا تضافرت أزمة الحكم مع تحرك المحكومين وتصاعد احتجاجاتهم ومقاومتهم ضد الفقر والتهميش والفجوة المتزايدة في الدخول والثروة والفساد وارتفاع الأسعار والبطالة، لتصل الأزمة إلى ذروتها بثورات 2011.
المشروع يتواصل: الشواهد
تكون الثورة سياسية عندما يكون التركيز على التغييرات في القيادات الحكومية وأشكال الحكم، وتكون الثورة اجتماعية بالمعنى الشامل، عندما تنزع السلطة من يد طبقة الحكم ومصالحها وتضعها في يد طبقة حكم جديدة بمصالح جديدة. ويقدم لنا المنظر السياسي الأمريكي هال درابر تعريفا ثالثا: ثورة سياسية بروح اجتماعية، وفيها تكون الثورة السياسية تعبيرا وتدشينا لعملية تثوير اجتماعي في اتجاه نقل سلطة الدولة ليد مصالح جديدة. وينبهنا درابر إلى أن التمييز بين السياسي والاجتماعي الاقتصادي كثيرا ما يكون صعبا للغاية، إذ يمتزجان أحيانا بنسب تتغير طوال الوقت. وربما يكون هذا هو أصدق توصيف للثورة المصرية والثورات العربية كرد فعل مباشر على فشل وأزمة مشروع الحكم العربي في نزعته النيوليبرالية. فقد هزت الثورة أركان الحكم القديم لتضع على أجندة المعركة السياسية تحقيق ديمقراطية سياسية واجتماعية وطبقية وإعادة لتوزيع الثروة.
لهذا السبب ذاته كانت الثورات العربية ملهمة للعالم كله. “كانت الثورات العربية أبعد من أن تكون محددة بالعالم العربي، إذ أنها بعثت بموجات من الصدمة عبر العالم لتلهم العديد من التحركات الجماهيرية والاحتجاجات الضخمة (كما هو الحال في حركة احتلوا) ضد الفساد المالي وبرامج التقشف واللامساواة الاجتماعية" [11]. لكن بعد ما يقرب من 5 سنوات من انفجار الثورات العربية لا يبدو أن الدول العربية التي شهدت أحداثه ولا غيرها ولا العالم قد تخلى عن المشروع النيوليبرالي أن لم تكن إجراءاته قد تسارعت وازدادت قسوة.
بعد تنحي مبارك وبن علي، صارت العدالة الاجتماعية هي المطلب المباشر على أجندة السياسة الاقتصادية المطروحة من أسفل. تجسدت مطالب العدالة الاجتماعية بطرق مختلفة في البلدان المختلفة لكنها جميعها كانت تجد أساسها في خلق الوظائف وتحسين الخدمات العامة ومواجهة الفساد المالي والأجور والأسعار. لكن الحقيقة هي أنه وإن كانت بعض التغيرات السياسية الفوقية تبدو عاصفة بالذات في البداية بسقوط ومبارك وبن علي وحزبيهما وإعادة الترتيب السياسية في بعض البلدان الأخرى في صورة تعديلات دستورية إلخ. فإن السياسة الاقتصادية ظلت على اتساقها البالغ في الأغلب الأعم كامتداد للمشروع النيوليبرالي، وغلبت سياسات إجماع واشنطن على ما يتم على الأرض.
في هذا لم يكن العالم العربي أيضا استثناء من الوضع العالمي. فبعد مليارات الدولارات واليوروهات التي تم ضخها في عنفوان الأزمة لإنقاذ البنوك والشركات الكبرى (تم ضخ أموال في دول الخليج وعلى رأسها السعودية في أعقاب الربيع العربي مباشرة لاستيعاب الشارع)، استعيدت سياسات التقشف وانسحاب الدولة بعنف في العالم بأسره تقريبا. “يكشف تحليل توقعات الإنفاق أنه كانت هناك مرحلتان منفصلتان لأنماط الإنفاق الحكومي منذ بداية الأزمة الاقتصادية العالمية. في المرحلة الأولى، (2008-2009) قامت معظم الحكومات بتقديم حزم تحفيز مالي ورفعت الإنفاق العام. بالرغم من ذلك، في 2010، انتشرت تخفيضات الموازنات العامة بالرغم من أن السكان كانوا أكثر عرضة لآثار الأزمة. والحاجة العاجلة الملحة للمساندة الحكومية”، كما تقول دراسة حديثة لمركز الجنوب وجامعة كولومبيا عن توجهات التقشف في 187 دولة عبر العالم منذ عام 2010 [12].
تقول الدراسة أن الضغوط التقشفية تتصاعد في العالم العربي بشكل هائل بالذات فيما يتعلق بدعم الوقود والسلع الغذائية في الخمس سنوات الماضية. ففي الجزائر ومصر والأردن ولبنان والمغرب وتونس واليمن هناك خطط وإجراءات لتقليل الدعم ولتقديم الوقود بأسعار السوق. من ناحية أخرى، فإن السمة العامة الأخرى في العالم العربي هي السعي إلى تخفيض الأجور. وتسعى كل من الجزائر ومصر والأردن والمغرب وتونس “لإصلاح” الجهاز الحكومي بتقليص أجوره وتطبيق مبدأ التعيين والفصل. كان تجسيد هذا في مصر مثلا تقديم قانون الخدمة المدنية الجديد الذي أثار العديد من الاحتجاجات من الموظفين الحكوميين.
وعلى مستوى الضرائب لم يمتد الإصلاح الضريبي لمستويات الدخول العليا إلا قليلا (في مصر جمدت ضريبة على الأرباح الرأسمالية في البورصة بعد أن احتج لوبي القطاع المالي)، وتعتزم الجزائر تقليص الإعفاءات الضريبية بينما توشك مصر على فرض ضريبة القيمة المضافة التي توسع أكثر وأكثر من الضرائب غير المباشرة التي يقع عبئها على الفقراء.
يلاحظ هنا أن الدراسة تشير إلى غياب أي خطط للخصخصة في الدول العربية السبعة التي ترصدها لكنها في الأغلب تشير إلى بيع الشركات لمستثمر رئيسي فقط. إذا أن هناك خطط في مصر لطرح حصص من الشركات الحكومية القابضة في البورصة، وهناك توسع في الشراكة بين القطاعين العام والخاص في أغلب هذه الدول في الخدمات العامة وعلى رأسها الصحة والتعليم والكهرباء والمياه والصرف الصحي.
وفي مصر وتونس، وهما التجربتان اللتان شهدتا سقوط الأحزاب الحاكمة ودرجة من انتقال السلطة دون الوقوع في شرك الحرب الأهلية، وبعد فترة سكون دفاعي في مواجهة تقدم الشارع بمطالب العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة، استعادت نخب البنية الاجتماعية للتراكم الزخم القديم وبسرعة على مستوى امتيازات القطاع المالي وكبار رجال الأعمال وعلى مستوى التعامل مع الفساد.
في تونس في عام 2015، تم إقرار قانون إعادة رسملة 3 بنوك عمومية أفلست بسبب إقراض رجال أعمال في حقبة بن علي لم يردوا القروض، وذلك من خلال أموال الدولة، في الوقت الذي تم فيه إقرار قانون آخر للمصالحة مع رجال الأعمال المتهمين بالفساد والاستيلاء على المال العام.
وفي مصر، تم إلغاء الحدود القصوى على الدخل فيما يتعلق بالبنوك بأحكام قضائية متعاقبة بينما تدخل لوبي البورصة عدة مرات ليوقف ضرائب على السوق. وسبقت مصر تونس في إصدار تعديلات على قوانينها تسمح بالمصالحة مع رجال الأعمال الفاسدين تعفيهم من المسئولية الجنائية وتمنع المواطنين من الطعن على العقود الحكومية، وهي الوسيلة التي كشفت العديد من العقود الفاسدة قبل سقوط مبارك.
وفي الخليج، وتحت ضغط تراجع أسعار البترول، بدأت دول الخليج في تطبيق إجراءات تقشف تهدف لتخفيض النفقات العامة. وبحسب احصاءات صندوق النقد تراجع فائض موازنات دول المجلس (السعودية، الإمارات، قطر، الكويت، البحرين وعمان) من 182 مليار دولار في 2013 إلى 24 مليارا فقط في 2014. وسجلت السعودية والبحرين وعمان عجزا في موازنة 2014 للمرة الاولى منذ الازمة المالية العالمية في 2009. وفقد برميل النفط أكثر من 50% من سعره منذ منتصف 2014 ما قد يحرم دول الخليج مداخيل تقدر بـ 275 مليار دولار بحسب صندوق النقد.
وحررت الإمارات في العام الحالي اسعار الوقود ورفعت تكلفة الكهرباء في ابو ظبي، فيما يتوقع أن يوفر مئات المليارات من الدولارات. اما الكويت فبدأت ببيع بعض مشتقات النفط بأسعار السوق منذ مطلع العام، وخفضت الانفاق بنسبة 17% وهي في طور زيادة اسعار الوقود وسعر المياه والكهرباء. وتبحث السعودية في إرجاء المشروعات “غير الضرورية” ودراسة اصلاحات في مجال دعم اسعار مواد الطاقة. ويعد سعر الوقود في المملكة من الادنى عالميا. ولم تشذ قطر وعمان والبحرين عن القاعدة العربية، فأعلنت انها في طور دراسة اجراءات لتقليص الانفاق وخفض الدعم.
وإذا كان التخفيض في حالة الخليج يمكن تبريره بأن النفط هو مصدر الدخل الأول، فإن انخفاض أسعار النفط يمثل فرصة بالنسبة لدولة مثل مصر، وعوضا عن توجيه فوارق الأسعار للإنفاق على الصحة والتعليم بحسب التعهدات الدستورية، أعطت الحكومة المصرية الأولوية لعجز الموازنة واستخدمت حيز السياسات الذي وفره انخفاض أسعار الطاقة العالمية في تخفيض عجز الموازنة (وهي توصية مباشرة من البنك الدولي).
لماذا لم يقدم الليبراليون الجدد العرب تنازلات؟
ألم يكن من الممكن تخليق وضع جديد والتعلم من دروس الثورة المصرية؟ فحتى مع القدرة على استيعاب الثورات العربية وتراجع القوى الاجتماعية التي تمثلها مازالت الأزمة الهيكلية التي تسبب فيها المشروع موجودة وربما تتفاقم. ألم يكن من المنطقي أن تستوعب نخب الحكم والتراكم الدرس وتقدم بعض التنازلات لضمان الاستقرار. لماذا يتواصل المشروع النيوليبرالي المأزوم في ذاته وفي فعالية حكمه بل ويتعمق بنفس الأدوات أن لم يكن أكثر عنفا؟
تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الظاهرة ليست ظاهرة عربية. فبرغم كل التراجع في الشرعية وعدم قدرة المشروع حتى على تجاوز أزمة التراكم ذاتها مازال متواصلا على المستوى العالمي. هناك عدة عناصر لعبت دورا في هذه الاستمرارية:
تراجع الحركة الجماهيرية: فلقد نجحت الثورة المضادة في صد الهجمة على المستوى السياسي والاجتماعي وفي استغلال تطور الثورات العربية في بلاد كسورية وليبيا إلى حرب أهلية في الدمغ الأيديولوجي للحركات السياسية التي تمثل مطالب الثورات بالتسبب في انهيار الدولة. وباستخدام أدوات القمع المباشر وقوانين تقييد الحريات ومنع الإضراب والاعتصام والتظاهر وتكسير حركة النقابات المستقلة وتفريغ الحياة السياسية تراجعت موجة الاحتجاج الاجتماعي في مصر حتى بالمقارنة بعصر مبارك. ويمكن تعميم هذا الوضع مع وجود تفاوتات على دول أخرى بما يؤكد تراجع الزخم الجماهيري والعمالي، وبالتالي تراجع الضغط من أسفل من أجل التغيير والإصلاح. ويقول تاريخ التحولات المماثلة، ومنها التحول إلى الليبرالية الجديدة ذاته، إنها لا تتم في العادة بشكل تدريجي سلس وإنما في إطار ضغوط حادة وصراعات هائلة. فالتحول إلى دولة الرفاه مثلا لم يحدث إلا على خلفية حرب عالمية ودمار هائل وصراعات اجتماعية ومواجهات كبرى. وكان التحول إلى النيوليبرالية حافلا بصراعات وحروب وانقلابات عسكرية ومقاومة جماهيرية. وفي غياب حركة جماهيرية جذرية، تزيد صعوبة تحولات كتلك.
ضعف مرونة حركة البنية الاجتماعية للتراكم: أن مصالح تحالفات الحكم الحالية تتسم بالتصلب وبالتالي فإن قدرتها ضعيفة للغاية على تقديم تنازلات للحركة الجماهيرية دون التضحية بمكون من المكونات الرئيسية المشكلة لها. في الحالة المصرية مثلا، تلعب الشراكة القديمة بين الجهاز الأمني وبين رجال الأعمال دورا واضحا في هذا. فلا يمكن على سبيل المثال فتح ملفات فساد دون المساس بهذه الشراكات القديمة. وفي الوقت نفسه، يعمل كل شريك، تحت ضغط من أزمتي الحكم والتراكم، على تعظيم وضعه. ويفسر ذلك التعديلات المتلاحقة التي تمت قبل وبعد يونيو 2013 في مصر لحماية عملية التراكم بنزح الحيازة في الخدمات العامة وفي الأراضي وفي غيرها عبر إزالة القيود التنظيمية والضوابط (كتحجيم قانون المزايدات والمناقصات والاعتماد على الاسناد المباشر للمشروعات لرجال الأعمال الكبار والشركات المنتمية لشبكة مصالح مبارك). ويمكن رصد تشابكات مماثلة في تركيب نخب الحكم المعبرة عن البنية الاجتماعية للتراكم في الدول العربية الأخرى، والتي من شأنها (مع الاختلاف مثلا عن مصر في دور ووضعية الجيش) أن تجعل من أي تنازل اجتماعي ولو صغير كسرا كبيرا في تحالف الحكم قد يتسبب في صراع وجود.
الدور الخارجي: لقد لعب تصلب المصالح المحلية هذا دورا في رفض نخبة الحكم في مصر مثلا بعض ما قبله صندوق النقد الدولي كطريقة لاستيعاب الغضب الشعبي والتعامل مع عواقب اللا مساواة الاقتصادية. فقد اعترض صندوق النقد على قرار تجميد ضريبة الأرباح الرأسمالية في البورصة على اعتبار أنها “عادلة ومطلوبة لزيادة الإيرادات”. بل وتسبب موقف الصندوق في أزمة مكتومة بين الطرفين. في هذه الحالة كانت المصالح المحلية أقوى حتى من حذر الصندوق لكن المؤسسة الدولية يدا بيد مع شريكيها في الثلاثي التاريخي (البنك ومنظمة التجارة العالمية) والشركاء الجدد وعلى رأسهم البنك الأوروبي لإعادة الاعمار والتنمية لعبت وتلعب دورا محوريا في استمرارية النيوليبرالية العربية وضمان تجاوزها محنة الثورات العربية.
كان التحرك الدولي برعاية “صندوق النقد” للتعامل مع سقوط نظامي بن علي في تونس ومبارك في مصر في مطلع 2011، سريعا. وعلى العكس من كل المقاربات التي ركزت على الجوانب السياسية والثقافية وحتى الجيلية والتكنولوجية في تفسير انتفاضات العرب التي سميت بالربيع العربي، كانت السياسة الاقتصادية في القلب من المبادرة التي أنشأتها مجموعة الثمانية في مدينة “دوفيل” الفرنسية في مايو 2011 وأعد صندوق النقد الدولي أوراقها الأساسية.
وتكشف المبادرة عن السمات الرئيسية للسياسة الاقتصادية التي يعاد تغليفها وتقديمها بعد صدمة 2011. السمة الأولى، هي أنها إطار للتعامل الجماعي مع ست دول (مصر والأردن وليبيا والمغرب وتونس واليمن)، وأنها تضم دولا لم تشهد سقوطا لأنظمة كالمغرب والأردن وهي في الوقت نفسه لا تشمل البحرين، التي شهدت انتفاضة شعبية. وهي في ذلك تصيغ تصورا لما يجب أن تكون عليه السياسة الاقتصادية الجديدة لهذه الدول معا. السمة الثانية، هي أنه، وإن كان الدعم المالي والإقراض عنصرا أساسيا في هذه المقاربة (التفاوض مع الصندوق شمل أغلب هذه الدول وتم التوصل لاتفاقات بالفعل مع الأردن والمغرب وتونس)، إلا أن مبادرة دوفيل كإطار معنية بعموم توجهات الاقتصاد والسياسة الاجتماعية.
على مستوى الخطاب، تحركت المؤسسات الدولية بمرونة سريعة. وكان مسؤولو البنك والصندوق في طليعة من يشيرون لعلاقة البطالة واللا مساواة والفقر والفساد بما حدث في خطاباتهم ومدوناتهم. ثم تلاهم بعض المراكز البحثية المحلية والإقليمية. في البداية كان رد الفعل لإنقاذ بنية الهيمنة والمصالح التي تخدمها هو إعادة صياغة المشكلة بعد الاعتراف بها في إطار الحل الفني. وتم تقديم مفاهيم كالنمو الاحتوائي بل وأحيانا ما تمت الإشارة حتى لمفاهيم جديدة تماما على هذا السرد كالعدالة الاجتماعية. لكن مع ذلك استمرت خطوط عامة كأولوية التقشف المالي وتقليص عجز الموازنة تحت اسم “الانضباط المالي”، بل استمرت سردية استعادة الاستثمار الأجنبي المباشر كأولوية دون أي تغيير. في الوقت ذاته، استمرت السياسات العامة على نفس الموجة السابقة ربما بوتيرة أهدأ فقط حتى تسارعت للغاية بعد تراجع موجات الثورة كما حدث في مصر منذ منتصف 2013.
ومع تراجع الموجة الثورية هذا، أعاد عقل الهيمنة النيوليبرالية التمركز مرة أخرى ليعيد صياغة خطابه حتى في نفس القضايا التي كان قد تم الاعتراف أنها مركب أصيل في تفسير ما حدث، محاولا استعادة المواقع التي فقدها بخصوص هذه القضايا المركزية. وهنا يمكن الإشارة إلى مثالين محوريين لكنهما ليسا حصريين هما: الفساد، والتفاوتات واللا مساواة، حيث عادت تقارير البنك الدولي مثلا للدفاع عن نمو زمن مبارك وبن علي لتبرأه من تهمة تعميق اللا مساواة الاقتصادية. ولا يمكن هنا الفصل بين موقف هذه المؤسسات الدولية وبين دول الخليج وبنى التراكم الاجتماعية الخاصة بها. لقد كانت دول الخليج ضمن القوى الأساسية في مبادرة دوفيل منذ اللحظة الأولى. بل وفي أعقاب يوليو 2013 كانت الإمارات تتفاوض لحساب مصر مع صندوق النقد الدولي. وتحتل دول الخليج المرتبة الأولى الآن من حيث المنح والقروض والاستثمارات في مصر، والتي تصب بشكل مباشر في صياغة قوانين استثمار بعينها وفي دعم الثورة المضادة بشكل مباشر سياسيا واقتصاديا وأيديولوجيا.
المعضلات العملية للبديل: لا تقتصر الإشارة إلى البديل هنا على البديل الذي يمكن أن يقدم من خارج البنية الاجتماعية للتراكم، فهو يشير أيضا للبديل من وجهة نظر البنية نفسها. ففي إطار الأزمة الحالية لم تستطع الرأسمالية العالمية وتجلياتها المحلية تقديم بديل يحل أزمة النيوليبرالية الجديدة ويطلق آفاقا جديدة للتراكم والأرباح، وهو ما يجعل طبقات الحكم تدور في نفس الفلك المأزوم.
من ناحيتها تروج طبقات الحكم لشعار مارجريت تاتشر: "لا يوجد بديل آخر" كي تنزع شرعية نقادها والطامحين للتغيير على أسس جديدة. ولقد طرح هذا الموقف الأيديولوجي مرارا وتكرارا منذ اللحظة الأولى للثورات العربية. وغني عن البيان أن الحركة الجماهيرية قدمت على الأرض صورا متعددة لبدائل جنينية للنظام الاقتصادي، تتقاطع مع تجارب دولية في الإدارة الذاتية وفي التعاونيات وتطوير نظم التعليم والصحة وأولويات الإنفاق العام والتعامل مع الديون الحكومية، إلخ. وذلك بالرغم من نقص المعلومات المتعمد ومن الحروب المباشرة التي تشن على تلك التحركات والأنماط البديلة.
لكن تظل أيضا هناك المعضلات العملية السياسية أمام من يطرحون البدائل. وتخبرنا تجربة سيريزا في حكم اليونان بحجم التحديات والمواجهات المحلية والدولية التي يمكن أن تتسبب في محاصرة وهزيمة البدائل الجذرية لليبرالية الجديدة إذا لم يتوفر لها توازن القوى الذي يسمح لها بتطوير جدول أعمالها والدفاع عنه.
[فصل ضمن كتاب: "العدالة الاجتماعية بين الحراك الشعبي والمسارات السياسية في البلدان العربية" بمشاركة: محمد العجاتي – هبة خليل – سلامة كيلة – عمر سمير خلف – توفيق حداد – فتحي الشامخي – رجاء كساب – شيماء الشرقاويالناشران: منتدى البدائل العربي للدراسات، ومنظمة روزا لوكسمبورغ.]
[2] http://www.turess.com/assabah/15751
[3] المصدر السابق
[4] انظر John Williamson, “In Search of a Manual for Technopols,” in The Political Economy of Policy Reform, ed. John Williamson و Washington: Institute for International Economics, 199
[5]Adam Hanieh, Lineages of Revolt Issues of Contemporary Capitalism in the Middle East, Chicago, Haymarket Books, 2013
[6] المصدر السابق
[8]Adam Hanieh, ibid
[9] للمزيد عن أزمة دولة الريع وتوجهات الحكم لحلها انظر:
كريستوفر دافيدسون، ما بعد الشيوخ: الانهيار المقبل للممالك الخليجية، بيروت، مركز أوال للدراسات والتوثيق، نوفمبر 2014.
[10] للمزيد انظر: سامر سليمان، النظام القوي والدولة الضعيفة، إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013.
[11] Richard Javad Heydarian, How Capitalism Failed the Arab World The Economic Roots and Precarious Future of the Middle East Uprisings, London, Zed Books, 2014
[12] Isabel Ortiz, Matthew Cummins, Jeronim Capaldo, Kalaivani Karunanethy, The Decade of Adjustment: A Review of Austerity Trends 2010-2020 in 187 Countries, Geneva, THE SOUTH CENTRE, INITIATIVE FOR POLICY DIALOGUE (IPD), COLUMBIA UNIVERSITY INTERNATIONAL LABOUR OFFICE ESS Working Paper No. 53, 2015